فصل: تفسير الآية رقم (101)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏91‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ستجدون‏}‏ قوماً ‏{‏آخرين‏}‏ منافقين، وهم أسد وغطفان، قَدِمُوا المدينة، وأظهروا الإسلام نفاقًا ورياء؛ إذا لقوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ إنا على دينك، يريدون الأمن، إذا لقوا قومهم، وقالوا لأحدهم‏:‏ لماذا أسلمت ومن تعبد‏؟‏ فيقول‏:‏ لهذا القرد ولهذا العقرب والخنفساء، ‏{‏يريدون‏}‏ بإظهار الإسلام ‏{‏أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما رُدوا إلى الفتنة أركسوا فيها‏}‏، أي‏:‏ كلما دُعُوا إلى الكفر رَجَعُوا إليه أقبحَ رد، ‏{‏فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم‏}‏ أي‏:‏ ولم يلقوا إليكم المسالمة والصلح، ولم ‏{‏يكفّوا أيديهم‏}‏ بأن تعرضوا لكم ‏{‏فاقتلوهم حيث ثقفتموهم‏}‏ أي‏:‏ وجدتموهم، ‏{‏وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانًا‏}‏، أي‏:‏ تسلطاً ‏{‏مبينًا‏}‏ ظاهرًا، لظهور كفرهم وثبوت عداوتهم‏.‏

الإشارة‏:‏ النفوس على ثلاثة أقسام‏:‏ قسم مطلقة العنان في الجرائم والعصيان، وهي النفوس الأمارة، وإليها الإشارة بالآية قبلها، والله أعلم‏.‏ وقسم مذبذبة؛ تارة تظهر الطاعة والإذعان، تريد أن يأمنها صاحبها، وتارة ترجع إلى الغي والعصيان، مهما دعيت إلى فتنة وقعت فيها، فأم لم تنته عن ذلك، وتكف عن غيها، فالواجب جهادها وقتلها؛ حتى تنقاد بالكلية إلى ربها، وأما النفس المطمئنة فلا كلام معها لتحقق إسلامها، فالواجب الكف عنها وحبها‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏92‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏وما كان لمؤمن‏}‏ النفي هذا بمعنى النهي، كقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ‏}‏ ‏[‏الأحزَاب‏:‏ 53‏]‏، و‏{‏إلا خطًأ‏}‏‏:‏ استثناء منقطع، و‏{‏خطأ‏}‏‏:‏ حال، أو مفعول من أجله، أو صفة لمصدر محذوف، أي‏:‏ لا يحل له أن يقتل مؤمنًا في حال من الأحوال، لكن إن وقع خطّأ فحكمه ما يأتي، وقيل‏:‏ متصل‏.‏ انظر ابن جزي‏:‏ أو‏:‏ إلا قتلا خطّأ، و‏{‏إلا أن يصدقوا‏}‏‏:‏ حال، أي‏:‏ إلا حال تصدقهم، و‏{‏توبة‏}‏‏:‏ مفعول من أجله، أي‏:‏ شرع ذلك لأجل التوبة‏.‏ أو، مصدر، أي‏:‏ تاب عليكم توبة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وما كان‏}‏ ينبغي ‏{‏لمؤمن أن يقتل مؤمنًا‏}‏ مثله، أي‏:‏ هو حرام عليه، ‏{‏إلاَّ‏}‏ أن يقتله ‏{‏خطًأ‏}‏ بأن ظنه كافرًا، أو رمى غيرَه فصادفه‏.‏ والآية نزلت بسب قتل عياش بن ربيعة للحارث بن زيد، وكان الحارث يعذبه على الإسلام، ثم أسلم الحارث، وهاجر، ولم يعلم عياشُ بإسلامه، فقتله‏.‏

ثم ذكر حُكمه فقال‏:‏ ‏{‏ومن قتل مؤمنًا خطًأ فتحرير رقبة‏}‏ أي‏:‏ فعليه تحرير رقبة ‏{‏مؤمنة‏}‏ سالمة من العيوب، ليس فيها شوب حرية، تكون من مال القاتل، ‏{‏ودِيَةٌ مُسلَّمة‏}‏ أي‏:‏ مدفوعة ‏{‏إلى أهله‏}‏ وهي على العاقلة كما بيَّن الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي عند مالك‏:‏ مائة من الإبل، وألف دينار شرعية على أهل الذهب، وأثنا عشر ألف درهم، على أهل الوَرِق، مقسطة على ثلاث سنين، فإن لم تكن العاقلة فعلى بيت المال، وتقسم على أهله، على حسب المواريث، إلا أن يتصدقوا بالدية على القاتل فتسقط، أي‏:‏ تسمع فيها الورثة أو القتيل قبل موته‏.‏

‏{‏فإن كان‏}‏ المقتول ‏{‏من قوم عدو لكم‏}‏ أي‏:‏ محاربين لكم، ‏{‏وهو‏}‏ أي‏:‏ المقتول ‏{‏مؤمن‏}‏ فعلى القاتل ‏{‏تحرير رقبة مؤمنة‏}‏ ولا دية؛ لأنهم محاربون فيتقووا بها على المسلمين، ورأى مالك أن الدية في هذا واجبة لبيت المال، ‏{‏وإن كان‏}‏ المقتول مؤمنًا وهو ‏{‏من قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏ أي‏:‏ عقد الصلح أو الذمة، فعلى القاتل ‏{‏دية مُسَلَّمة إلى أهله‏}‏، وعليه أيضًا ‏{‏تحرير رقبة مؤمنة‏}‏ كفارة لخطئه‏.‏ فإن كان غير مؤمن فلا كفارة فيه‏.‏ وفيه نصف دية المسلم، ‏{‏فمن لم يجد‏}‏ الرقبة، أو لم يقدر عليها؛ فعليه ‏{‏صيام شهرين متتابعين‏}‏ عوضًا من العتق، جعل الله ذلك ‏{‏توبة من الله‏}‏ على القاتل لتفريطه‏.‏ ‏{‏وكان الله عليمًا‏}‏ بما فرض، ‏{‏حكيمًا‏}‏ فيما قدَّر ودبَّر‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن الحقّ جلّ جلاله قد رغَّب في إحياء النفوس، حسًا ومعنًى، ونهى عن قتلها حسًا ومعنًى، وما ذلك إلى لخصوص محبة له فيها، ومزيد اعتناء له بشأنها؛ فليس في الوجود أعز من الله من مظهر هذا الآدمي إن استقام في العبودية لربه، فهو قلب الوجود، ومن أجله ظهر كل موجود، وهو المنظور إليه من هذا العالم السفلي، والمقصود بالخطاب التكليفي‏:‏ جزئي وكلي، فهو المقصود من بيت القصيد، وهو المحبوب إليه، دون سائر العبيد، قال تعالى‏:‏

‏{‏وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسي‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 41‏]‏‏.‏

ومعنى إحيائها حسًّا‏:‏ إنقاذها من الهلاك الحسّي، ومعنى إحيائها معنّى‏:‏ إنقاذها من الهلاك المعنوي كالجهل والغفلة، حتى تحيا بالعلم والإيمان واليقظة، ومعنى قتلها حسًا‏:‏ إهلاكها، ومعنى قتلها معنًى‏:‏ إيقاعها في المعاصي والكفر وحملها على ذلك، وكذلك إهانتها وذلها، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لَعنُ المُؤمن كَقَتَلهِ» فأمر من قتله خطًأ أن يُحيي نفسًا أخرى من مقابلتها بإخراجها من موت إهانة الرق، فإن لم يقدر، فليحيي نفسه بقتل صولتها بالجوع حتى تنكسر، فتحيا بالتوبة واليقظة، ويُجبر كسر أهل المقتول بالدية المُسَلَّمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ‏(‏93‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا‏}‏ مستحلاً لقتله ‏{‏فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغَضِبَ الله عليه ولعنه‏}‏ أي‏:‏ طرده ‏{‏وأعد له عذابًا عظيمًا‏}‏، وقولُنا‏:‏ مستحلاً لقتله، هو أحد الأجوبة عن شبهة المعتزلة القائلين بتخليد عصاة المؤمنين في النار‏.‏ ومن جُملتهم‏:‏ قاتل النفس‏.‏

ومذهب أهل السنة‏:‏ أنه لا يخلد إلا الكافر، ويؤيد هذا الجواب سبب نزول الآية، لأنها نزلت في كافر، وهو ‏(‏مَقِيس بن ضُبَابة الكناني‏)‏؛ وَجَدَ أخَاه هشامًا قَتَيلاً في بني النجر وكان مُسلمًا فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأرسَل مَعهُ رجلاً من بني فهرِ، وقال له‏:‏ «ائت بني النّجار، وقُل لهم‏:‏ إن عَلمتُم قاتِل هِشَامٍ فادفَعُوهُ لمقيس يَقتَصُّ مِنه، وإن لِمَ تَعلمُوا فادفَعُوا إليه الدَّيةَ» فقالوا‏:‏ سمعًا وطاعة، لم نَعلَم قاتِله، فجمعوا مائة من الإبل، فأخذها، ثم انصرفا راجعَين إلى المدينة، فوسوس إليه الشيطان، وقال‏:‏ أيَّ شيء صَنَعتَ‏؟‏ تَقبلُ ديةَ أخيكَ فتكونُ عليك سُبَّة، اقتل الرجلَ الذِي مَعكَ فتكُونَ نفسٌ مكانَ نَفسٍ وفَضلُ الدِّيَة، فَقَتَلَه وأخذ الدِّية، فنزلت فيه الآية‏.‏

أو يكون الخلود عبارة عن طول المكث، والجمهور على قبول توبته، خلافًا لابن عباس، ونُقِل عنه أيضًا قبولها، ولعله تعالى استغنى عن ذكر التوبة هنا اكتفاء بذكرها في الفرقان، حيث قال‏:‏ ‏{‏وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا‏}‏ ‏[‏الفُرقان‏:‏ 68‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏إِلاَّ مَن تَابَ‏}‏ ‏[‏مريَم‏:‏ 60‏]‏‏.‏ وأما من قال‏:‏ إن تلك منسوخة بهذه فليس بصحيح؛ لأن النسخ لا يكون في الأخبار‏.‏ أو فجزاؤه إن جُوزِي، ولا بِدع في خلف الوعيد لقوله‏:‏ ‏{‏وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ‏}‏ ‏[‏النَّساء‏:‏ 48‏]‏؛ لأن الوعيد مشروط بعدم العفو، لدلائل منفصلة اقتضت ذلك كما هو مشروط بعدم التوبة أيضًا، والحاصل‏:‏ أن الوعد لا يخلف لأنه من باب الامتنان، والوعيد يصح إخلافه، بالعفو والغفران، كما في بعض الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «مَن وَعَدَه الله عز وجل على عملٍ ثوابًا فهو منجزه له لا محالة، ومَن أوعَدَه على عمل عقابًا فهو بالخيار، إن شاءَ عَفَا عنه، وإن شاء عَاقَبه» ه‏.‏ ذكره في القوت‏.‏

فَتَحَصَّل أن القاتل لا يُخلَّد على المشهور إلاَّ إذا كان مستحلاً، وهذا أيضًا ما لم يقتص منه، وأما إذا اقتُص منه فالصحيح أنه يسقط عنه العقاب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَن أصَابَ ذَنبًا فعُوقِبَ بِه في الدنيا فَهُوَ له كَفَّارَةٌ» وبه قال الجمهور، وكذلك إذا سَامَحَهُ ورثةُ الدم‏:‏ لأنه حق ورثوه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ الإيمان محلة القلوب، فالقلب هو المتصف بالإيمان حقيقة‏.‏ فالمؤمن الحقيقي هو القلب، فمن قتله بتتبع الشهوات، وتراكم الغفلات، فجزاؤه نار القطيعة في سجن الأكوان، والبعد عن عرفان الشهود والعيان، وفي الحِكَم‏:‏ «سبب العذاب وجود الحجاب، وإتمام النعيم بالنظر إلى وجهة الكريم»‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏94‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏السَّلم‏}‏ بالقصر‏:‏ الانقياد والاستسلام، وبالمد‏:‏ التحية‏.‏ وجملة ‏{‏تبتغون‏}‏‏:‏ حال من الواو، مشعرة بما هو الحامل على العجلة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم‏}‏ أي‏:‏ سافرتم وسرتم تجاهدون ‏{‏في سبيل الله‏}‏، ‏{‏فتبينوا‏}‏ الأمور وتثبتوا فيها ولا تعجلوا، فإن العجلة من الشيطان، ‏{‏ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم‏}‏ أي‏:‏ الانقياد والاستسلام، أو سلَّم عليكم تحية الإسلام، ‏{‏لست مؤمنًا‏}‏؛ إنما فعلت ذلك متعوذًا خائفًا، فتقتلونه طمعًا في ماله، ‏{‏تبتغون عرض الحياة الدنيا‏}‏ وحطامها الفاني، ‏{‏فعند الله مغانمُ كثيرة‏}‏ وَعَدَكُم بها، لم تقدروا الآن عليه، فاصبروا وازهدوا فيما تَشُكُّون فيه حتى يأتيكم ما لا شهبةَ فيه، ‏{‏كذلك كنتم من قبل‏}‏ هذه الحال، كنتم تخفون إسلامكم خوفًا من قومكم، ‏{‏فمنَّ الله عليكم‏}‏ بالعز والنصر والاشتهار ‏{‏فتبينوا‏}‏ وتثبتوا ولا تعَجلَوا، وافعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل اللهُ بكم، حيث حفظكم وعصمكم، ولا تبادروا إلى قتلهم ظنًا بأنهم إنما دخلوا فيه اتقاء وخوفًا، فإن إبقاء ألف كافر أهون عند الله من قتل مؤمن، وتكريره تأكيد لتعظيم الأمر‏.‏ ثم هدَّدهم بقوله ‏{‏إن الله كان بما تعملون خبيرًا‏}‏ مطلعًا على قصدكم، فلا تتهافتوا في القتل، واحتاطوا فيه‏.‏

رُوِي أن سريةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم غزت أهل فَدَك فهربوا، وبقي مرداسُ ثقًة بإسلامه، لأنه كان مسلمًا وحده، فلما رأى الخيلَ ألجأ غَنَمه إلى عاقول من الجبل، وصعد عليه، فلما تلاحقوا وكَبَّروا، كَبَّر ونزل يقول‏:‏ لا إله إلا الله محمد رسول الله، السلام عليكم، فقتله أسامةُ، واستاق غنمه، فنزلت الآية‏.‏ فلما أُخبر عليه الصلاة والسلام وَجِدَ وجدًا شديدًا، وقال لأسامة‏:‏ «كيف بلا إله إلا الله، إذا جاءت يوم القيامة‏؟‏‏!‏» قالها ثلاثًا، حتى قال أسامة‏:‏ ليتني لم أكن أسلمتُ إلا يومئٍذ، ثم استغفرَ له بعدُ، وقال له‏:‏ «اعتق رقبة» وقيل‏:‏ نزلت في المقداد، مرَّ برجل في غنمه فأراد قتله، فقال‏:‏ لا إله إلا الله، فقتله وظفر بأهله وماله، وقيل‏:‏ القاتل‏:‏ مُحلِّم بن جَثَامة، والمقتول‏:‏ عامرُ بن الأضبط‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ يستقاد من الآية‏:‏ الترغيب في خَصلتين ممدوحتين وخصوصًا عند الصوفية‏:‏

الأولى‏:‏ التأني في الأمور والرزانة والطمأنينة، وعدم العجلة والخفة والطيش‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «من تَأنَّى أصابَ أو كادَ، ومَن استعجَّلَ أخطَأ أو كَادَ» ولا يُقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه، ويفهم عن الله أنه مراد الله في ذلك الوقت‏.‏

والثانية‏:‏ حُسْن الظن بعباد الله كافة، واعتقاد الخير فيهم، وعدم البحث عما اشتمل عليه بواطنهم، فقد قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أُمِرتُ أن أحكم بالظواهر والله يتولى السرائر» وقال لأسامة‏:‏ «هلاّ شققت عن قلبه»، حين قَتَلَ من قال‏:‏ لا إله إلا الله، أو لغيره‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير‏:‏ حُسن الظن بالله، وحُسن الظنِّ بعباد الله، وخصلتان ليس فوقهما من الشر شيء‏:‏ سوء الظن بالله، وسوء الظن بعباد الله» والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 96‏]‏

‏{‏لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏95‏)‏ دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏96‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏من المؤمنين‏}‏‏:‏ حال من ‏{‏القاعدين‏}‏، و‏{‏غير‏}‏ بالرفع‏:‏ صفة للقاعدين، وبالنصب‏:‏ حال، وبالجر‏:‏ بدل من المؤمنين، و‏{‏درجة‏}‏‏:‏ نصب على إسقاط الخافض، أو على المصدر، لأنه متضمن معنى التفضيل، أو على الحال، أي‏:‏ ذوي درجة‏.‏ و‏{‏أجرًا عظيمًا‏}‏‏:‏ مصدر لفضَّل، لأنه بمعنى أجرًا، أو مفعول ثان لفضَّل، لأنه بمعنى أعطى، أي‏:‏ أعطاهم زيادة على القاعدين أجرًا عظيمًا، و‏{‏درجات‏}‏ وما بعده، كل واحد بدل من ‏{‏أجرًا‏}‏، و‏{‏درجات‏}‏‏:‏ نصب على المصدر، كقولك‏:‏ ضربته أسواطًا، و‏{‏أجرًا‏}‏‏:‏ حال، تقدمت عليها؛ لأنها نكرة و‏{‏مغفرة ورحمة‏}‏‏:‏ على المصدر بإضمار فعلهما‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ترغيبًا في الجهاد‏:‏ ‏{‏لا يستوي القاعدون‏}‏ عن الجهاد ‏{‏من المؤمنين‏}‏ مع المجاهدين في سبيل الله في الدرجة والأجر العظيم‏.‏ ولما نزلت أتى ابنُ أم مكتوم وعبد الله بن جحش، وهما أعميان فقالا‏:‏ يا رسول الله ذكرَ الله فضيلةَ المجاهدين على القاعدين، وحالُنا على ما ترى، ونحن نشتهي الجهاد، فهل من رخصة‏؟‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏غير أُولي الضرر‏}‏، فجعل لهم من الأجر ما جعل للمجاهدين؛ لزمانتهم وحسن نياتهم‏.‏

ثم ذكر فضل مَن خرج من قعد لعذٍر فقال‏:‏ ‏{‏فضِّل الله المجاهدين بأموالهم‏}‏، مواساة للمجاهدين، ‏{‏وأنفسهم‏}‏ ببذلها في سبيل رب العالمين، ‏{‏على القاعدين‏}‏ لعذر، ‏{‏درجة‏}‏ واحدة، لمزيد مشقة السفر والغزو والخطر بالنفس للموت، ‏{‏وكُلاًّ‏}‏ من القاعدين لعلة والمجاهدين في سبيل الله، ‏{‏وعد الله الحسنى‏}‏ أي‏:‏ المثوبة الحسنى، وهي الجنة‏.‏ ‏{‏وفضَّل الله المجاهدين على القاعدين‏}‏ من غير عذر ‏{‏أجرًا عظيمًا‏}‏ وخيرًا جسيمًا‏.‏ وفي البخاري‏:‏ «إنَّ لله مائةً درَجةٍ أعدَّها للمجاهدين في سبيلِ الله، ما بينَ الدَرجتين كَمَا بين السَّماءِ والأرضِ» الحديث‏.‏ ثم بيَّنها بقوله ‏{‏درجات منة‏}‏ أي‏:‏ من فضله وإحسانه، ‏{‏ومغفرة‏}‏ لذنوبة، ‏{‏ورحمة‏}‏ تُقرِّبه إلى ربه، ‏{‏وكان الله غفورًا‏}‏ لما عسى أن يفرط منه، ‏{‏رحيمًا‏}‏ بما وعدَ له‏.‏

الإشارة‏:‏ لا يستوي القاعد مع حظوظه وهواه، مشتغلاً بتربية جاهه وماله وتحصيل مُناه، غافلاً عن السير إلى حضرة مولاه، مع الذي سلَّ سيفَ العزم في جهاد نفسه وهواه، وبذل مهجته وجاهد نفسه في طلب رضاه، حتى وصل إلى شهود أنوار جماله وسناه، هيهات هيهات، لا يستوي الأحياء مع الأموات، فإن قعد مع نفسه لعذر يُظهره، مع محبته لطريق القوم وإقراره لأهل الخصوصية، فقد فضَّل الله عليه المجاهدين لنفوسهم بدرجة الشهود ومعرفة العيان للملك الودود، وإن قعد لغير عذر مع الإنكار لأهل الخصوصية، فقد فضَّل الله عليه المجاهدين أجرًا عظيمًا، درجات منه بالترقي أبدًا، ومغفرة ورحمة، وفي البيضاوي‏:‏ التفضيل بدرجة في جهاد الكفار، وبدرجات في جهاد النفس؛ لأنه الأكبر للحديث والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏97- 99‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏97‏)‏ إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ‏(‏98‏)‏ فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ‏(‏99‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إن الذين‏}‏ تتوفاهم ‏{‏الملائكة‏}‏ أي‏:‏ مَلَك الموت وأعوانه، يعني‏:‏ تَقبِضُ أرواحهم، ‏{‏ظالمي أنفسهم‏}‏ بترك الهجرة ومرافقة الكفرة، ‏{‏قالوا‏}‏ أي‏:‏ الملائكة في توبيخهم‏:‏ ‏{‏فِيمَ كنتم‏}‏ أي‏:‏ في أي شيء كنتم من أمر دينكم‏:‏ أعلى الشك أو اليقين‏؟‏ أو‏:‏ في أي بلد كنتم‏:‏ في دار الكفر أو الإسلام‏؟‏ ‏{‏قالوا كنا مستضعفين في الأرض‏}‏ فعجزنا عن الهجرة وإظهار الدين خوفًا من المشركين، ‏{‏قالوا‏}‏ أي‏:‏ الملائكة تكذيبًا لهم وتبكيتًا‏:‏ ‏{‏ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها‏}‏ إلى قطر آخر، كما فعل المهاجرين إلى الحبشة والمدينة، لكن حبستكم أموالُكم، وعزَّت عليكم أنفسكم، ‏{‏فأولئك مأواهم جهنم‏}‏ لتركهم الهجرة الواجبة في ذلك الوقت، ومساعدتهم الكفار على غزو المسلمين، ‏{‏وساءت مصيرًا‏}‏ أي‏:‏ قبحت مصيرًا جهنم التي يصيرون إليها‏.‏

نزلت في ناس من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يُهاجروا، فخرجوا يوم بدر مع المشركين فرأوا قلةَ المسلمين، فقالوا‏:‏ غرَّ هؤلاء دينُهم، فقُتِلوا، فضربت الملائكة وجوهم وأدبارهم، كما يأتي، فلا تجوز الإقامة تحت حكم الكفر مع الاستطاعة، بل تجب الهجرة، ولا عذر في المقام، وإن منعه مانعٌ فلا يكون راضيًا بحاله مطمئنَ النفس بذلك، وإلا عمَّهُ البلاءُ، كما وقع لأهل الأندلس، حتى صار أولادُهم كفارًا والعياذ بالله، وكذلك لا تجوز الإقامة في موضعٍ تغلبُ فيه المعاصي وترك الدين‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ في الآية دليل على وجوب الهجرة من موضع لا يتمكن في الرجل من إقامة دينه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من فرَّ بدينه من أرض، ولو كان شبرًا من الأرض، استَوجَبَ الجنة، وكان رفيقَ إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام» قلت‏:‏ ويدخل فيه على طريق الخصوص من فرّ من موضع تكثر فيه الشهوات والعوائد، أو تكثر فيه العلائق والشواغل، إلى موضع يقلُّ فيه ذلك، طلبًا لصفاء قلبه ومعرفة ربه، بل هو أولى، ويكون رفيقاً لهما في حضرة القدس عند مليك مقتدر‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ثم استثنى مَن تَحَقَّق إسلامُه وحبسه العذر، فقال‏:‏ ‏{‏إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان‏}‏ أي‏:‏ المماليك والصبيان، وفيه إشعار بأنهم على صدد وجوب الهجرة، فإنهم إذا بلغوا وقدروا على الهجرة، فلا محيص عنها، وأن قومهم يجب أن يهاجروا بهم متى أمكنت الهجرة‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ «كنتُ أنا أبي وأُمي ممن استثنى الله بهذه الآية»‏.‏

ثم وصفهم بقوله ‏{‏لا يستطيعون حيلة‏}‏ أي‏:‏ قوة على ما يتوقف عليه السفر، من ركوب أو غيره، ‏{‏ولا يهتدون سبيلاً‏}‏ أي‏:‏ لا يعرفون طريقًا، ولا يجدون دليلاً، ‏{‏فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم‏}‏‏.‏ وعبَّر بحرف الرجاء إيذانًا بأنّ تركَ الهجرة أمرٌ خطير، حتى إن المضطر من حقه أن لا يأمن، ويترصد الفرصة، ويُعلِّقُ بها قلبه، ‏{‏وكان الله غفورًا رحيمًا‏}‏ فيعفو ويغفر لمن غلبه العذر‏.‏

وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من لم يتغلغل في علم الباطن، مات ظالمًا لنفسه، أي‏:‏ باخسًا لها؛ لما فوَّتها من لذيذ الشهود، ومعرفة الملك المعبود، ولا يخلو باطنه من الإصرار على أمراض القلوب، التي هي من أكبر الذنوب، فإذا توفته الملائكة على هذه الحالة، قالت له‏:‏ فيم كنتَ حتَّى لم تهاجر إلى من يُطهرك من العيوب، ويوصلك إلى حضرة علام الغيوب‏؟‏ فيقول‏:‏ كنتُ من المستضعفين في علم اليقين، ولم أقدر على صحبة أهل عين اليقين وحق اليقين؛ حَبَسَنَي عنهم حُبُّ الأوطان، ومرافقة النساء والولدان‏.‏ فيقال لهُ‏:‏ ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجر فيها إلى من يخلصك من الحجاب، وينفي عنك الشك والارتياب‏؟‏ فلا جرم أن مأواه سجن الأكوان، وحرمان الشهود والعيان، إلاَّ من أقر بوجود ضعفه، واضطر إلى مولاه في تخليصه من نفسه، فعسى ربه أن يعطف عليه، فيوصله إلى عارف من أوليائه، حتى يلتحق بأحبابه وأصفيائه، وما ذلك على الله بعزيز‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏100‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ المراغَم‏:‏ المهرب والمذهب‏.‏ قاله في القاموس‏.‏ وقال البيضاوي‏:‏ يجد متحولاً، من الرغام وهو التراب‏.‏ وقيل‏:‏ طريقًا يراغم قومه بسلوكه فيها، أي‏:‏ يفارقهم على رغم أنوفهم، وهو أيضًا من الرغام‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ومن يهاجر في سبيل الله‏}‏ لإعلاء كلمة الله وإقامة دينه، ‏{‏يجد في الأرض‏}‏ فضاءً كثيرًا، ومتحولاً كبيرًا يتحول إليه، وسعة بدلاً من ضيق ما كان فيه، من قهر العدو ومنعه من إظهار دينه، أو سعةٌ في الرزق، وبسطًا في المعيشة، فلا عذر له في المقام في مكان مُضَيَّقٍ عليه فيه في أمر دينه، ‏{‏ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله‏}‏ وجهادٍ في سبيله، ‏{‏ثم يُدركه الموت‏}‏ قبل وصوله فقد ثبت أجرُه، ووجب على الله وجوب امتنان أن يبلغه قصده بعد موته، ‏{‏وكان الله غفورًا‏}‏ لما سلف له من عدم المبادرة، ‏{‏رحيمًا‏}‏ به، حيث بلَّغه مأمولَه‏.‏

نزلت في جُندع بن ضَمرة، وكان شيخًا كبيرًا مريضًا، فلما سمع ما نزل في شأن الهجرة قال‏:‏ والله ما أنا ممن استثنى الله، ولي مال يُبِلغني المدينة، والله لا أبيتُ الليلة بمكة، اخرجُوا بي، فخرجوا به على سريره حتى أتوا به التنعيم، فأدركه الموت بها، فَصفَّق بيمينه على شماله، وقال‏:‏ اللهم هذه لك وهذه لرسولك، أُبايعك على مَا بَايَعَك عليه رسولك، فمات حَمِيدًا‏.‏ فقال الصحابة‏:‏ لو وافَى المدينةَ، كان أتم أجرًا، وضحك المشركون، وقالوا‏:‏ ما أدرك ما طلب‏.‏ فنزلت‏:‏ ‏{‏ومن يخرج من بيته‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت في خالد بن حزام، فإنه هاجر إلى أرض الحبشة، فنهشته حيَّةٌ في الطريق، فمات قبل أن يصل‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ومن يهاجر من وطن حظوظه وهواه، طلبًا للوصول إلى حضرة مولاه، يجد في أرض نفسه متسعًا للعلوم، ومفتاحًا لمخازن الفهوم، وسعة الفضاء والشهود، حتى ينطوي في عين بصيرته كلُّ موجود، ويتحقق بشهود واجب الوجود‏.‏ ومن يخرج من بيت نفسه وسجن هيكله إلى طلب الوصول إلى الله ورسوله، ثم يُدركه الموت قبل التمكين، فقد وقع أجره على الله، وبلَّغه الله ما كان قَصَدَه وتمنُّاه، فيُحشر مع الصديقين أهلِ الرسوخ والتمكين، التي تلي درجتُهم درجةَ النبيين، وكذلك من مات في طلب العلم الظاهر ولم يدركه في حياته، حشِر مع العلماء، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من جاءَه أجله وهو يطلبُ العلمَ لم يكن بينه وبين النبيين إلا درجةٌ واحدة» قلت‏:‏ وهذه الدرجة التي بينه وبين النبوة هي درجة الصديقين المتقدمة قبله‏.‏

وكل من مات في طلب شيء من الخير، أدركه بعد موته بحسن نيته، كما في الأحاديث النبوية، قال القشيري‏:‏ المهاجر في الحقيقة، من هاجر نفسه وهواه، ولا يصح ذلك إلا بانسلاخه عن جميع مراداته وقصوده، فمن قصَده أي قصد الحق تعالى ثم أدركه الأجلُ قبل وصوله، فلا ينزل إلا بساحات وصله، ولا يكون محط رفقته إلا مكان قربه‏.‏ ه‏.‏ وفي بعض الآثار‏:‏ الهجرة هجرتان‏:‏ هجرة صُغرى، وهجرة كبرى، فالصغرى‏:‏ انتقال الأجسام مِن وطنٍ غير مرضي إلى وطن مرضي، والكبرى‏:‏ انتقال النفوس من مألوفاتها وحظوظها إلى معرفة ربها وحقوقها‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ‏(‏101‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإذا ضربتم في الأرض‏}‏، أي‏:‏ سافرتم للجهاد أو غيره من السفر المباح، أو المطلوب، ‏{‏فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة‏}‏ الرباعية إلى ركعتين، ونفيُ الجُناح يقتضي أنها رُخصة، وبه قال الشافعي، ويؤيده أنه عليه الصلاة والسلام أتمّ في السفر وأن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ يا رسول الله قَصَرْتَ وأتممْتُ، وصُمْتُ وأفطرتِ‏؟‏ فقال «أحسنت يا عائشة» وأوجبه أبو حنيفة؛ لقول عمر رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏السفر ركعتان؛ تمام غير قصر، على لسان نبيكم‏)‏‏.‏ ولقول عائشة‏:‏ ‏(‏أول ما فرضت الصلاة ركعتان، فأقرت صلاة السفر، وزيدت في الحضر‏)‏‏.‏

وقال مالك رضي الله عنه‏:‏ القصرُ سنة؛ لكونه عليه الصلاة والسلام دام عليه في كل سفر، ولم يتُم إلا مرةً لبيان الجواز‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا‏}‏ طاهرِه أن الخوف شرط في القصر، وبه قالت عائشة وعثمان رضي الله عنهما، والجمهور على عدم شرطه، وإنما ذكره الحق تعالى لكونه غالبًا في ذلك الوقت، فلا يعتبر مفهومه، أو يؤخذ القصر في الأمن من السُّنة‏.‏ ويؤيد هذا حديثُ يَعلى بن أمِية، قلت لعمر بن الخطاب‏:‏ إن الله يقول‏:‏ ‏{‏إن خفتم‏}‏، وقد أمن الناس‏؟‏‏.‏ فقال‏:‏ عجبتُ مما تعجبتَ منه‏.‏ فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ «صَدقةٌ تصدَّق به الله علَيكم، فاقبلوا صدَقته» وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة وهو آمن‏.‏

وليس في الآية ما يدل على تحديد المسافة التي تُقصَرُ فيها الصلاةُ، بل ذَكَرَ مطلقَ السفر، ولذلك أجاز الظاهرية القصر في كل سفر، طال أو قصر‏.‏ ومذهب مالك والشافعي‏:‏ أن المسافة أربعة بُردُ، واحتجوا بآثار عن ابن عمر وابن عباس‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ ستة بُرُد، وكذلك لم يقيد الحقُّ السفرَ بمباح ولا غيره، ولذلك أجاز أبو حنيفةٍ القصرَ في كل سفر‏.‏ ومنعه مالك في سفر المعصية‏.‏ ومنعه ابن حنبل في المعصية والمباح‏.‏ والمراد بالفتنة في قوله‏:‏ ‏{‏إن خفتم أن يفتنكم‏}‏‏:‏ الجهاد والتعرض لما يُكره، وعداوة الكفار معلومة‏.‏

الإشارة‏:‏ وإذا ضربتم في ميادين النفوس، وتحقق سيرُكم إلى حضرة القدوس، فلا جناح عليكم أن تقتصروا على المهم من الصلاة الحسية، وتدوموا على الصلاة القلبية، التي هي العكوف في الحضرة القدسية، إن خفتم أن تشغلكم عن الشهود حلاوةُ المعاملة الحسية‏.‏ قال بعض العارفين‏:‏ اتقوا حلاوة المعاملة، فإنها سموم قاتلة‏.‏ وكذلك قال القطب بن مشيش في المقامات كالرضا، والتسليم‏:‏ أخاف أن تشغلني حلاوتها عن الله‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏102‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإذا كنت فيهم‏}‏ أيه الرسول ‏{‏فأقمت لهم الصلاة‏}‏، أي‏:‏ صلاة الخوف، وكذلك الأمراء النائبون عنه، ‏{‏فلتقم طائفة منهم معك‏}‏، وطائفة تقف وجَاهَ العدو للحراسه، ‏{‏وليأخذوا أسلحتهم‏}‏ أي‏:‏ المصلون معك، ‏{‏فإذا سجدوا فليكونوا‏}‏ أي‏:‏ الطائفة الحارسة ‏{‏من ورائكم‏}‏ فإذا صلَّت نصفَ الصلاة مع الإمام، قضت في صلبه ما بقي لها وذهبت تحرس‏.‏

‏{‏ولتأت طائفة أخرى لم يُصلوا فليُصلوا معك‏}‏ النصف الباقي، فإذا سلمتَ، قضوا ما بقي لهم، فإذا كانت ثنائية‏:‏ صلَّى بالأولى ركعةَ، وَثَبَتَ قائمًا ساكتًا أو قارئًا، ثم تصلي من صلت معه ركعة وتسلم، وتأتي الثانية فتكبر، فيُصلِي بها ركعةً ويسلم وتقضي ركعة‏.‏ واذا كانت رباعية، أو ثلاثية صلى بالأولى ركعتين، ثم تقوم الأولى فتصلي ما بقي لها وتسلم وتأتي الثانية فتكبر وتصلي معه ما بقي له، ثم تقضي ما بقي لها، هكذا قاله مالك والشافعي‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ يصلي بالأولى ركعّة، ثم تتأخر وهي في الصلاة، وتأتي الثانية فيصلي بها ركعة، فإذا سلَّم ذهبت مكان الأولى قبل سَلاَمها، فتأتي الأولى فتصلي ركعة ثم تُسلَّم، وتأتي الثانية فتصلي ركعية ثم تُسلَّم‏.‏ وفي صلاة الخوف عشرة أقوال على حسب الأحاديث النبوية، لأنها تعدَّدت منه صلى الله عليه وسلم، فكل واحد أخذ بحديث، وما قاله مالك والشافعي هو الذي فعله عليه الصلاة والسلام في غزوة ذات الرقاع‏.‏

ثم أمر الطائفة الحارسة بأخذ السلاح، والحذر من العدو فقال‏:‏ ‏{‏وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم‏}‏، ثم ذكر عِلَّةَ الحذر فقال‏:‏ ‏{‏ودّ الذين كفروا لو تَغْفُلُون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة‏}‏ أي‏:‏ تمنوا أن ينالوا منكم غرة، فيشدون عليكم شدة واحدة فيستأصلونكم‏.‏

رُوِي أن المشركين لما رأوا المسلمين صلوا صلاة الظهر ندموا أن لو كانوا أغاروا عليهم في الصلاة، ثم قالوا‏:‏ دعوهم فإن لهم صلاة هي إليهم أحب من آبائهم وأبنائهم يعنون صلاة العصر، فلما قام النبي عليه الصلاة والسلام لصلاة العصر نزل جبريلُ بصلاة الخوف‏.‏

ثم رخَّص لهم في وضع السلاح، لعذرٍ فقال‏:‏ ‏{‏ولا جناح عليكم‏}‏ أي‏:‏ لا إثم ‏{‏إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم‏}‏ منهم بالحراسة‏.‏ رُوِي أنها نزلت في عبد الرحمن بن عوف، مَرِضَ فوضع سلاحه، فعنَّفه أصحابُه، فنزلت الآية‏.‏

ثم هوَّن شأن الكفار بعد أن أمر بالحذر منهم فقال‏:‏ ‏{‏إن الله أعد للكافرين عذابًا مهينًا‏}‏ في الدنيا والآخرة‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ وعد المؤمنين بالنصرة على الكفار، بعد الأمر بالحذر، ليقوي قلوبهم، وليعلموا أن الأمر بالحذر ليس لضعفهم وغلبة عدوهم، بل إن الواجب أن يحافظوا في الأمور على مراسم التيقظ والتدبير‏.‏

ه‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا كنت في جند الأنوار، وأحدَقَت بك حضرة الأسرار، ثم نزلتَ إلى سماء الحقوق أو أرض الحظوظ فلتقم طائفة من تلك الأنوار معك، لتحرسك من جيش الأغيار وجند الأكدار، حتى يكون رجوعُك إلى الآثار مصحوبًا بكسوة الأنوار وحليلة الاستبصار، فيكون رجوعك إليها بالله لا بنفسك، فإذا سجد القلبُ في الحضرة كانت تلك الأنوار من ورائه والأسرار من أمامه، ‏{‏وَاللهُ مِن وَرَآئِهِم مُحِيطُ‏}‏ ‏[‏البُرُوج‏:‏ 20‏]‏، ولتأت طائفة أخرى لم تصل هذه الصلاة؛ لأنها لم تبلغ هذا المقام، فلتصل معك اقتباسًا لأنوارك، لكن تأخذ حذرها وتستعد من خواطر الأشغال، كي لا تميل عليهم فتفتنهم عن الحضور مع الكبير المتعال، فإن كان مريض القلب بالهوى وسائر العلل، فلا يكلف من الحضور إلا ما يطيقه، لأن القط لا يكلف بحمل الجمل‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ‏(‏103‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ فإذا فرغتم من الصلاة ‏{‏فاذكروا الله‏}‏ في جميع أحوالكم ‏{‏قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم‏}‏ إن أردتم حراسة قلوبكم، والنصر على عدوكم، أو إذا أردتم قضاءَ الصلوات وأداء فرضها، وأنتم في المعركة، فصلوا كما أمكنكم ‏{‏قيامًا‏}‏ راجلين أو على خيولكم إيماءً، وحلَّ للضرورة حينئٍذ مشى وركض وطعن وعدم توجه وإمساك ملطخ، وتنبيهٌ وتحذيرٌ، هذا للصحيح، ‏{‏وقعودًا وعلى جنوبكم‏}‏، للمريض أو الجريح، هكذا قال جمهور الفقهاء في صلاة المسايفة وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يصلي المحارب حتى يطمئن‏.‏

‏{‏فإذا اطمأننتم‏}‏ وذهب الخوفُ عنكم ‏{‏فأقيموا الصلاة‏}‏ على هيأتها المعلومة، واحفظوا أركانها وشروطها، وأُتوا بها تامة، ‏{‏إن الصلاة كانت المؤمنين كتابًا موقوتًا‏}‏ أي‏:‏ فرضًا محدود الأوقات، لا يجوز إخراجها عن وقتها في شيء من الأحوال‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ وهذا دليل على أن المراد بالذكر الصلاة، وأنها واجبة الأداء، حال المسايفة، والاضطراب في المعركة، وتعليلٌ للأمر بالإتيان بها، كيف أمكن‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا فرغتم من الصلاة الحسية، فاستغرقوا أحواكم في الصلاة القلبية، حتى تطمئن قلوبكم في الحضرة القدسية، فإذا اطمأننتم في الحضرة، فأقيموا صلاة الشهود والنظرة، وهي الصلاة الدائمة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ‏}‏ ‏[‏المعَارج‏:‏ 23‏]‏‏.‏ وقال الورتجبي‏:‏ إذا كنتم في حالةِ التمكين وامتلأتم من أنوار ذكره، فينبغي أن تخرجوا من أبواب الرخص، والاستراحة في سعة الروح، وترجعوا إلى مقام الصلاة، فإن آخر سيركم في ربوبيتي‏:‏ أول بدايتكم في عبوديتي‏.‏ ه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏104‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الوهن‏:‏ الفشل والضعف‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ لا تضعفوا في طلب ‏{‏القوم‏}‏، أي‏:‏ الكفار، فتجاهدوهم في سبيل الله، فإن الحرب دائرة بينهم وبينكم، قد أصابهم مثل ما أصابكم، فإن ‏{‏تكونوا تألمون‏}‏، أي‏:‏ تتوجعون من الجراح، ‏{‏فإنهم يألمون كما تألمون‏}‏، وأنتم ترجون من الله النصر والعز في الدنيا، والدرجات العلا في الآخرة، وهم لا يرجون ذلك، فحقكم أن تكونوا أصبر وأرغب في الجهاد منهم، ‏{‏وكان الله عليمًا‏}‏ بأعمالكم وضمائركم، ‏{‏حكيمًا‏}‏ فيما يأمركم به وينهاكم‏.‏

الإشارة‏:‏ لا تهنوا عن طلب الظفر بنفوسكم، ولا تفشلوا عن السير الى حضرة ربكم، فإن كنتم تألمون حال محاربتها ومخالفة شهواتها، فإنها تألم مثلكم، ما دامت لم ترتض في حضرة ربكم، فإذا ارتاضَت وتحلت صار المُر عندها حلوًا، وذلك إنما يكون بعد موتها وحياتها، فدوموا على سياستها ورياضتها، فإنكم ترجون من الله الوصول، وبلوغ المأمول، وهي ترجو الرجوع إلى المألوفات وركوب العادات، فاعكسوا مُراداتها، حتى تطمئن في حضرة ربها، فتأمن غوائلها، فليس بعد الوصول رجوع، ولا إلى العوائد نزوع، والله غالب على أمره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏105- 109‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ‏(‏105‏)‏ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏106‏)‏ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ‏(‏107‏)‏ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ‏(‏108‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ‏(‏109‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ أرى، هنا عرفانية، لا علمية‏.‏ فلذلك لم تتعد إلى ثلاثة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ لنبيّه عليه الصلاة والسلام حين همَّ أن يخاصم عن طُعمَة بن أبَيرِق، وذلك أنه سرق درعًا من جاره قتادة بن النعمان، في جراب دقيق، فجعل الدقيق يسقط من خرق فيه، وخبَّأها عند يهودي، فالتمس الدرع عند طعمة، فلم توجد، وحلف ما أخذها، وما له بها علم، فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها، فقال اليهودوي‏:‏ دَفَعَهَا إليَّ طُعمَة، وشهد له ناس، من اليهود، فقال رهط طعمة من بني ظفر‏:‏ انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسأله أن يجادل عن صاحبنا، وقالوا‏:‏ إن لم يفعل هلك وأفتضح، وبرىء اليهودي، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتماداً على ظاهر الأمر، ولم يكن له علم بالواقعة، فنزلت الآية‏:‏

‏{‏إنا أنزلنا إليكم الكتاب بالحق‏}‏ أي‏:‏ ملتبسًا بالحق ‏{‏لتحكم‏}‏ بما فيه من الحق ‏{‏بين الناس‏}‏ بسبب ما ‏{‏أراك‏}‏ أي‏:‏ عَرَّفك ‏{‏الله‏}‏ بالوحي، أو بالاجتهاد، ففيه دليل على إثبات القياس، وبه قال الجمهور‏.‏ وفي اجتهاد الأنبياء خلاف‏.‏ ‏{‏ولا تكن للخائنين خصيمًا‏}‏ أي‏:‏ عنهم للبرآء، أو لأجلِهم والذَّبَّ عنهم‏.‏

‏{‏واستغفر الله‏}‏ مما هممت به، ‏{‏إن الله كان غفورًا رحيمًا‏}‏، وفيه دليل على منع الوكالة عن الذمي، وبه قال ابن شعبان‏.‏ وقال ابن عات‏:‏ لعله أراد الندب‏.‏ وقال مالك بن دينار‏:‏ كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينًا للخونة‏.‏ والوكالة من الأمانة، والمصطفى عليه الصلاة والسلام لم يقصد شيئًا من ذلك، ولا علم له بالواقعة، لولا أطلعَه تعالى، فلا نقص في اهتمامه، ولا درك يلحقه‏.‏ وبالجملة، فالآية خرجت مخرج التعريف بحقيقة الأمر في النازلة‏.‏

ثم نهاه عن الذبّ عنهم، فقال‏:‏ ‏{‏ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم‏}‏ وهم رهط بن أبيرق السارق، قال السهيلي‏:‏ هم بِشر وبشير ومُبشر وأُسَير، ‏{‏إن الله لا يحب مَن كان خوّانًا‏}‏ أي‏:‏ كثير الخيانة، ‏{‏أثيمًا‏}‏ أي‏:‏ مصرًا عليها، رُوِي أن طعمة هرب إلى مكة، وارتدَّ، ونَقَبَ حائطًا بها ليسرق أهله، فسقط الحائط عليه فقتله، ويستفاد من الآية امتناع الجدال عمن عُلِمَت خيانتُه بالأحرى، أو كان مظنة الخيانة، كالكافر ونحوه‏.‏ وكذا قال ابن العربي في أحكام القرآن في هذه الآية‏:‏ إن النيابة عن المبطل المتهم في الخصومة لا تجوز، بدليل الآية‏.‏ ه‏.‏

ثم فَضحَ سرهم، فقال‏:‏ ‏{‏يستخفون من الناس‏}‏ أي‏:‏ يستترون منهم، ‏{‏ولا يستخفون من الله‏}‏ وهو أحق أن يستحيا منه ويُخاف ‏{‏وهو معهم‏}‏ لا يخفى عليه شيء، فلا طرق للنجاة إلا تَركُ ما يستُقبح، ويؤاخذ عليه سرًا وجهرًا‏.‏ ‏{‏إذ يُبيتون‏}‏ أي‏:‏ يدبرون ويُزَوِّرُون ‏{‏ما لا يرضى من القول‏}‏ من رمي البريء، والحلف الكاذب، وشهادة الزور، ‏{‏وكان الله بما يعملون محيطًا‏}‏ لا يفوته شيء، ‏{‏ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا‏}‏ ودفعتم عنهم المعرة، ‏{‏فَمن يجادل الله عنهم‏}‏ أي‏:‏ مَن يُدافُع عنهم عذابه ‏{‏يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً‏}‏ يحميهم من عقاب الله، حين تُفضَح السرائر، ولا تنفع الأصحاب ولا العشائر‏.‏

الإشارة‏:‏ في الآية عتاب للقضاة والولاة إذا ظهرت صورة الحق بأمارات وقرائن، ثم تجمدوا على ظاهر الشريعة، حمية أو رشوة، فإن القضاء جُلّة فِراسة، وفيها عتاب لشيوخ التربية، إذا ظهر لهم عيب في المريد ستروه عليه حيَاء أو شفقة، ولذلك قالوا‏:‏ شيخ التربية لا تليق به الشفقة، غير أنه لا يُعيَّن، بل يذكر في الجملة، وصاحب العيب يفهم نفسه، وفيها عتاب للفقراء إذا راقبوا الناس، وأظهروا لهم ما يُحبون، وأخفوا عنهم ما لا يرضون، لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يستخفون من الناس‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، بل ينبغي أن يكونوا بالعكس من هذا، قال بعضهم‏:‏ إن الذين تكرهون مني، هو الذي يشتهيه قلبي‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏110‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ومن يعمل سوءًا‏}‏ أي‏:‏ ذنبًا قبيحًا يسوءُ به غيره، ‏{‏أو يظلم نفسه‏}‏ بذنب يختص به، أو من يعمل سوءًا بذنبٍ غيرِ الشرك، أو يظلم نفسه بالشرك، أو من يعمل سوءًا بالكبيرة، أو يظلم نفسه بالصغيرة، ‏{‏ثم يستغفر الله‏}‏ بالتوبة ‏{‏يجد الله غفورًا‏}‏ لذنوبه ‏{‏رحيمًا‏}‏ بقبول توبته، وفيه حث لطُعمَة وقومِه على التوبة والاستغفار‏.‏

الإشارة‏:‏ ومن يعمل سوءًا بالميل إلى الهوى، أو يظلم نفسه بالالتفات إلى السوى، أو من يعمل سوءًا بالهفوات والخطرات، أو يظلم نفسه بالغفلات والفترات، أو من يعمل سوءًا بالوقوف مع الكرامات وحلاوة الطاعات، أو يظلم نفسه بالقناعة من الترقي في الدرجات والمقامات، ثم يستغفر الله من حينه يجد الله غفورًا رحيمًا، حيث لم يُخرِجهُ من حضرته، ولم يتركه مع غفلته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏111- 112‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏111‏)‏ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏112‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ومن يكسب إثمًا‏}‏ كسرقة أو يمين فاجرة، أو رمى غيره بجريمة، ‏{‏فإنما يكسبه على نفسه‏}‏ لا يتعدى ضررها إلى غيره، ‏{‏وكان الله عليمًا‏}‏ بسرائر عباده ‏{‏حكيمًا‏}‏ في إمهالهم وسترهم، ‏{‏ومن يكسب خطيئة‏}‏ أي‏:‏ جريمة تتعدى إلى ضرر غيره، ‏{‏أو إثمًا‏}‏ يختص بنفسه، ‏{‏ثم يَرمِ به بريئًا‏}‏ منه، كما رمى طُعمَةُ زيدًا اليهوديِّ، ‏{‏فقد احتمل بهتانًا‏}‏ وهو أن يبهت الرجل بما لم يفعل، ‏{‏وإثمًا مبينًا‏}‏ أي‏:‏ ذنبًا ظاهرًا، لا يخفى قبحه وبشاعته‏.‏

الإشارة‏:‏ الإثم‏:‏ ما حاك في الصدر وتلجلج فيه، ولم ينشرح إليه الصدر، وضده البر؛ وهو ما ينشرح إليه الصدر ويطمئن إليه القلب، فكل من فعل شيئًا قد تلجلج قلبه منه ولم يقبله؛ نقص من نوره، وأظلم قلبه منه، وإليه الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏ومن يكسب إثمًا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، أي‏:‏ فإنما يُسَوِّدُ به نور نفسه وروحه، ومن تلبَّس بذنب أو عيب، ثم برح به غيرَه من باب سُوءِ الظن ‏{‏فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا‏}‏ لأن الواجب على المريد السائر أن يشهد الصفاء من غيره، ويُقصر النقصَ على نفسه، والواصل يرى الكمال في كل شيء لمعرفته في كل شيء‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ‏(‏113‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الجارّ في قوله‏:‏ ‏{‏من شيء‏}‏، في موضع نصب على المصدر، أي‏:‏ لا يضرونك شيئًا من الضرر‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولولا فضل الله عليك‏}‏ بالعصمة ورحمته بالعناية، ‏{‏لهمت طائفة منهم‏}‏ وهم رهط السارق ‏{‏أن يضلوك‏}‏ عن القضاء بالحق، مع علمهم بالقصة، لكن سبقت العناية، وحفت الرعاية، فلم تخرج من عين الهداية‏.‏ وليس المراد نفي همهم لأنه وقع، إنما المراد نفي تأثيره فيه، ‏{‏وما يضلون إلا أنفسهم‏}‏ لعوده عليهم، ‏{‏وما يضرونك من شيء‏}‏؛ لأن الله عصمك، وما خطر ببالك من المجادلة عنهم، كان اعتمادًا منك على ظاهر الأمر وإنما أُمرتَ أن تحكم بالظواهر، والله يتولى السرائر‏.‏

‏{‏وأنزل الله عليك الكتاب‏}‏ أي‏:‏ القرآن، ‏{‏والحكمة‏}‏ ما نطقتَ به من الحِكَم، ‏{‏وعَلَّمَكَ ما لم تكن تعلم‏}‏ من خفيات الأمور، التي لم تطلع عليها، أو من أمور الدين والأحكام، ‏{‏وكان فضل الله عليك عظيمًا‏}‏ ولا فضل أعظم من النبوة، لا سيما وقد فضَّله على كافة الخلق وأرسله إلى كافة الناس، وهدى الله على يديه ما لم يَهدِ على يدِ أحد من الأنبياء قبله، إلى غير ذلك من الفضائل التي تفوت الحصر‏.‏

الإشارة‏:‏ لولا أن الله تفضَّل على أوليائه بسابق العناية، وحفَّت بهم منه الكلاءة والرعاية، لأضلتهم العموم عن عين التحقيق، ولأتلفتهم القواطع عن سلوك الطريق، لكن من سبقت له العناية لا يصيبه سهمُ الجناية، فثَّبتَ أقدامهم على سير الطريق، حتى أظهر لهم معالم التحقيق، فكشف عن قلوبهم رين الحجاب، حتى فهموا أسرار الكتاب، ونبع من قلوبهم ينابيع الحَكَم والأسرار، واطلعوا على علوم لم يُحِط بها كتاب ولا دفتر، فحازوا في الدارين خيرًا جسيمًا، وكان فضل الله عليهم عظيمًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

‏{‏لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏114‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ إن كان المراد بالنجوى الكلام الخفي؛ فالاستثناء منقطع، وقد يكون متصلاً على حذف مضاف؛ أي‏:‏ إلا نجوى مَن أمر‏.‏‏.‏‏.‏ الخ، وإن كان المراد بالنجوى الجماعة المتناجين، بالاستثناء متصل‏.‏ قاله ابن جزي‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ محرّضًا على الصمت‏:‏ ‏{‏لا خير في كثير‏}‏ مما يتناجون به في شأن السارق أو غيره، بل لا خير في الكلام بأسره ‏{‏إلا من أمر بصدقة‏}‏ واجبة أو تطوعية، فله مثل أجره، ‏{‏أو معروف‏}‏ وهو‏:‏ ما يستحسنه الشرع، ويوافقه العقل، كالقرض، وإغاثة الملهوف، وتعليم الجاهل، وإرشاد الضال، وغير ذلك من أنواع المعروف‏.‏ أو أمر بإصلاح ‏{‏بين الناس‏}‏، أي‏:‏ إصلاحات ذات البين، كإصلاح بين طعمة واليهودي وغيرهما‏.‏ قال مجاهد‏:‏ ‏(‏هي عامة للناس‏)‏، يريد أنه لا خير فيما يتناجى في الناس، ويخوضون فيه من الحديث، إلا ما كان من أعمال الخير‏.‏

‏{‏ومن يفعل ذلك‏}‏ أي‏:‏ الصدقة، والمعروف والإصلاح، ‏{‏ابتغاء مرضات الله‏}‏ أي‏:‏ مُخلصًا لله ‏{‏فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا‏}‏ وخيرًا جسيمًا‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ بَنَى الكلامَ على الأمر، ورتَّب الجزاء على الفعل، ليدل على أنه لما دخل الآمر في زمرة الخَيّرين كان الفاعل أدخل فيهم، وأن العمدة والغرض هو الفعل، واعتبار الأمر من حيث إنه وصلة إليه‏.‏ وقيد الفعل بأن يكون لطلب مرضاة الله؛ لأن الأعمال بالنيات، وإن من فعل خيرًا رياء وسمعة، لم يستحق بها من الله أجرًا، ووصف الأجر بالعظم تنبيهًا على حقارة ما فات في جنبه من أغراض الدنيا‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ في الآية حثٌّ على الصمت، وهو ركن قوي في طريق التصوف، وهو أحد الأركان الأربعة؛ التي هي‏:‏ العزلة والجوع والسهر، فهذه طريق أهل البداية، ومن لا بداية له لا نهاية له، وقالوا‏:‏ بقدر ما يصمت اللسان؛ يعمر الجنان، وبقدر ما كان يتكلم اللسان يخرب الجنان‏.‏ وقالوا أيضًا‏:‏ إذا كثر العلمُ قلَّ الكلام، وإذا قل العلم كثر الكلام، وقالوا أيضًا‏:‏ من عرف الله كَلَّ لسانهُ‏.‏ وقيل لبعض العلماء‏:‏ هل العلم فيما سلف أكثر، أو اليوم أكثر‏؟‏ قال‏:‏ العلم فيما سلف أكثر، والكلامُ اليومَ أكثر‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ومن يفعل ذلك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إشارة إلى أن العمل أشرف من العلم بلا عمل‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏115- 116‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏115‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏116‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ المشاقة‏:‏ المخالفة والمباعدة، كأن كل واحد من المتخالفين في شَقِّ غيرِ شقَّ الآخر‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ومن‏}‏ يخالف ‏{‏الرسول‏}‏ ويتباعد عنه ‏{‏من بعد ما تبين له الهدى‏}‏ أي‏:‏ بعد ما تحقق أنه على الهدى؛ بالوقوف على المعجزات، فيترك طريق الحق ‏{‏ويتبع غير سبيل المؤمنين‏}‏ أي‏:‏ يسلك غير ما هم عليه، من اعتقاد أو عمل‏.‏ ‏{‏نوله ما تولى‏}‏ أي‏:‏ نتركه مع ما تولى، ونجعله وليًّا له، ونُخَلِّي بينه وبين ما اختاره من الضلالة، ‏{‏ونُصله جهنم‏}‏ أي‏:‏ ندخله فيها، ونشويه بها، ‏{‏وساءت مصيرًا‏}‏ أي‏:‏ قَبُحت مصيرًا جهنم التي يصير إليها‏.‏ والآية تَدُل على حرمة مخالفة الإجماع، لأن الله رتَّب الوعيد الشدد على مشاقة الرسول، واتباع غير سبيل المؤمنين، وكل منهما محرم وإذا كان اتباع غير سبيلهم محرمًا، كان اتباع سبيلهم واجبًا، انظر البيضاوي‏.‏

ثم نزل في طُعمة لما ارتد مشركًا‏:‏ ‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ وقيل‏:‏ كرر للتأكيد تقبيحًا لشأن الشرك، وقيل‏:‏ أتى شيخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إني شيخ منهمك في الذنوب إلا أني لم أشرك بالله شيئًا منذ عرفتُه وآمنتُ به، ولم أتخذ من دونه وليًا، ولم أوقع المعاصي جرأة، وما توهمت طرفة عين أني أُعجز الله هربًا، وإني لنادم تائب، فما ترى حالي عند الله‏؟‏ فنزلت‏.‏ ‏{‏ومن يشرك بالله فقد ضل‏}‏ عن الحق ‏{‏ضلالاً بعيدًا‏}‏؛ لإن الشّرك أقبح أنواع الضلالة، وأبعدها عن الثواب والاستقامة، وإنما ذكر في الآية الأولى‏.‏ ‏{‏فقد افترى‏}‏؛ لأنها متصلة بقصة أهل الكتاب، ومنشأ شركهم نوع افتراء، وهو دعوى الشيء على الله‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من خالف شيخه، وسلك طريقًا غير طريقة؛ ولاه الله ما تولى، واستدرجه من حيث لا يشعر، وقد تؤخر العقوبة عنه فيقول‏:‏ لو كان هذا فيه سوء أدب مع الله، لقطع الإمداد وأوجب البعاد، وقد يقطع عنه من حيث لا يشعر، ولو لم يكن إلا وتخليته وما يريد‏.‏ وبالجملة‏:‏ فالخروج عن مشايخ التربية والانتقال عنهم، ولو إلى من هو أكمل في زعمه، بعد ما ظهر له الفتح والهداية على يديه؛ طردٌ وبعدٌ، وإفساد لبذرة الإرادة، فلا نتيجة له أصلاً‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏117- 121‏]‏

‏{‏إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا ‏(‏117‏)‏ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ‏(‏118‏)‏ وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ‏(‏119‏)‏ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ‏(‏120‏)‏ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ‏(‏121‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ المَرِيد والمارد؛هو الذي لا يعلق بخير، وأصل التركيب للملابسة، ومنه‏:‏ صرح ممرَّد، وغلام أمرد، وشجرة مردى، أي‏:‏ سقط ورقها‏.‏ قاله اليضاوي‏.‏ ه‏.‏ وقيل‏:‏ المريد‏:‏ الشديد العاتي، الخارج عن الطاعة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إنْ يدعون‏}‏‏:‏ ما يعبدون ‏{‏من دونه‏}‏ تعالى ‏{‏إلا إناثًا‏}‏ كاللات والعزى ومناة، فإن ألفاظها مؤنثة عندهم، أو لأنها جوامد لا تعقل، فهي منفعلة لا فاعلة، ومن حق المعبود أن يكون فاعلاً غير منفعل، أو يريد الملائكة؛ لأنهم كانوا يعبدونها، ويزعمون أنها بنات الله، وما يعبدون في الحقيقة ‏{‏إلا شيطانًا مريدًا‏}‏ عاصيًا، لأنه هو الذي أمرهم بها، وأغراهم عليها، وكان يكلمهم من أجوافها‏.‏

ثم وصفه بأوصاف تُوجب التنفير عنه فقال‏:‏ ‏{‏لعنه الله‏}‏ أي‏:‏ أبعده من رحمته ‏{‏وقال لأتخذنّ من عبادك نصيبًا مفروضًا‏}‏ أي‏:‏ مقطوعًا فرضته لنفسي، من قولهم‏:‏ فرض له في العطاء، أي‏:‏ قطع، ‏{‏ولأضلنّهم‏}‏ عن الحق ‏{‏لأمنينّهم‏}‏ الأماني الباطلة، كطول الحياة، وألاَّ بعث ولا عقاب، ‏{‏ولآمرنهم فليبتكنّ آذان الأنعام‏}‏ أي‏:‏ يشقونها لتحريم ما أحل الله، وهي عبارة عما كانت العرب تفعل بالبحائر والسوائب، وإشارة إلى تحريم كل ما أحل الله، ونقص كل ما خلق الله كاملاً بالفعل أو بالقوة، ‏{‏ولآمرنهم فليُغَيّرُنّ خلق الله‏}‏؛ صورة أو صفة، فيندرج فيه خصاء العبيد والوشم، والتنمص وهو نتف الحاجب‏.‏

زاد البيضاوي‏:‏ واللواط، والمساحقة، وعبادة الشمس القمر، وتغيير فطرة الله التي هي الإسلام، واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالاً ولا يوجب لها من الله زلفى‏.‏ وعموم اللفظ يقتضي منع الخِصاء مطلقًا، لكن الفقهاء رخصوا في خصاء البهائم للحاجة، والجُمل الأربع حكاية عما ذكره الشيطان نطقًا، أو أتاه فعلاً‏.‏ ه‏.‏

ثم حذّر منه فقال‏:‏ ‏{‏ومن يتخذ الشيطان وليًّا من دون الله‏}‏ باتباعه فيما أمره به دون ما أمر الله به، ‏{‏فقد خسر خسرانًا مبينًا‏}‏ واضحًا؛ حيث ضيع رأس ماله، وأبدل بمكانة من الجنة مكانه من النار‏.‏ ‏{‏يعدهم‏}‏ أي‏:‏ الشيطان، أمورًا لا تُنجز لهم، ‏{‏ويمنّيهم‏}‏ أماني لا تعطى لهم، ‏{‏وما يعدهم‏}‏ أي‏:‏ ‏{‏الشيطان إلا غرورًا‏}‏، وهو إظهار النفع فيما فيه الضرر، فكان يوسوس لهم أنهم على الحق وأنهم أولى بالجنة، إلى غير ذلك من أنواع الغرور، ‏{‏أولئك‏}‏ المغرورون ‏{‏مأواهم جهنم‏}‏ أي‏:‏ هي منزلهم ومقامهم، ‏{‏ولا يجدون عنها محيصًا‏}‏ أي‏:‏ مهربًا ولا معدلاً‏.‏ من حاص يحيص‏:‏ إذا عدل‏.‏

الإشارة‏:‏ ما أحببت شيئًا إلا كنت له عبدًا، فاحذر أن تكون ممن يَعبُد من دون الله إناثًا، إن كنت تحب نفسك، وتؤثر هواها على حق مولاها، أو تكون عبد المرأة أو الخميصة أو البهيمة، أو غير ذلك من الشهوات التي أنت تحبها، واحذر أيضًا أن تكون من نصيب الشيطان بإيحاشك إلى الكريم المنان، وفي الحِكَم‏:‏ «إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده»‏.‏ فاشتغل بمحبة الحبيب، يكفيك عداوة العدو، فاتخذ الله وليًا وصاحبًا، ودع الشيطان جانبًا، غِب عن الشيطان باستغراقك في حضرة العِيان‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏122‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ‏(‏122‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏وعدّ اللهِ‏}‏ مصدر، مؤكد لنفسه، أي‏:‏ وعدهم وعدًا، و‏{‏حقًا‏}‏ مؤكد لغيره، أي‏:‏ لمضمون الجملة قبله‏.‏ انظر البيضاوي‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا‏}‏ بالله ووحدوه، ‏{‏وعملوا‏}‏ الأعمال ‏{‏الصالحات‏}‏ التي كلفوا بها ‏{‏سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا‏}‏ وعدهم بذلك وعدًا حقًا، ‏{‏ومن أصدق من الله قيلاً‏}‏ أي‏:‏ لا أحدَ أصدقُ من الله في قوله‏.‏ والمقصود من الآية معارضة المواعيد الشيطانية الكاذبة لقرنائه، بوعد الله الصادق لأوليائه، ترغيبًا في تحصيل أسبابه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ والذين جمعوا بين توحيد عظمة الربوبية والقيام بوظائف العبودية سندخلهم جنةَ المعارف، تجري من تحتها أنها العلوم، خالدين فيها أبدًا، وعدًا حقًا وقولاً صدقًا‏.‏ ومن أصدق من الله قيلاً‏؟‏

تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

‏{‏لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏123‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ اسم ليس ضمير الأمر، أي‏:‏ ليس الأمر بأمانيكم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ليس‏}‏ هذا الوعد الذي ذكرت لأهل الإيمان يُنَال ‏{‏بأمانيكم‏}‏ أي‏:‏ تمنيكم أيها المسلمون، ولا بأماني ‏{‏أهل الكتاب‏}‏، أي‏:‏ لا يكون ما تتمنون ولا ما يتمنى أهل الكتاب، بل يحكم الله بين عباده ويجازيهم بأعمالهم‏.‏ رُوِي أن المسلمين وأهل الكتاب تفاخروا، فقال أهل الكتاب‏:‏ نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون‏:‏ نحن أولى منكم، نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب المتقدمة، فنزلت‏.‏ وقيل‏:‏ الخطاب مع المشركين، وهو قولهم‏:‏ لا جنة ولا نار، أو قولهم‏:‏ إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لتكونن خيرًا منهم وأحسن حالاً‏.‏

وأماني أهل الكتاب‏:‏ قولهم ‏{‏لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلآ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ‏}‏ ‏[‏آل عِمرَان‏:‏ 24‏]‏، و‏{‏لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارى‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 111‏]‏، ثم قرر ذلك فقال‏:‏ ‏{‏من يعمل سوءًا يجز به‏}‏ عاجلاً أو آجلاً؛ لما رُوِي أنه لما نزلت قال أبو بكر‏:‏ من ينجو مع هذا يا رسول الله، إن كنا مجزيين بكل سوء عملناه‏؟‏ فقال له عليه الصلاة والسلام «أما تحزن‏؟‏ أما تمرض‏؟‏ أما يصيبك اللأواء‏؟‏» قال بلى يا رسول الله، قال‏:‏ «هو ذلك» فكل من عمل سوءًا جوزي به، ‏{‏ولا يجد له من دون الله وليًا‏}‏ يليه ويدفع عنه، ‏{‏ولا نصيرًا‏}‏ ينصره ويمعنه من عذاب الله‏.‏

الإشاره‏:‏ لا تُنال المراتب بالأماني الكاذبة والدعاوي الفارغة، وإنما تنال بالهمم العالية، والمجاهدات القوية، إنما تنال المقامات العالية بالأعمال الصالحة، والأحوال الصافية، وأنشدوا‏:‏

بِقَدرٍ الكذِّ تُكتَسَبُ المَعَالِي *** من أراد العز سهر الليالي

تُرِيدُ العزَّ ثُم تَنَامُ لّيلاً *** يَغُوضُ البحر مَن طَلَبَ اللآلي

ولما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ قال أهل الكتاب‏:‏ نحن وأنتم سواء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏124- 126‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ‏(‏124‏)‏ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ‏(‏125‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ‏(‏126‏)‏‏}‏

الإشارة‏:‏ ‏{‏من ذكر أو أنثى‏}‏‏:‏ حال من الضمير في ‏{‏يعمل‏}‏، وكذا قوله‏:‏ ‏{‏وهو مؤمن‏}‏ و‏{‏حنيفًا‏}‏، حال من ‏{‏إبراهيم‏}‏؛ لأنه جزء ما أضيف إليه‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ومن يعمل‏}‏ شيئاً ‏{‏من‏}‏ الأعمال ‏{‏الصالحات‏}‏ وهو المهم من المكلف به، إذ لا طاقة للبشر على الإتيان بكلها‏.‏ حال كون العامل ‏{‏من ذكر أو أنثى‏}‏؛ إذ النساء شقائق الرجال في طلب الأعمال، والحالة أن العامل ‏{‏مؤمن‏}‏ لأن الإيمان شرط في قبول الأعمال، فلا ثواب على عمل ليس معه إيمان‏.‏ ثم ذكر الجواب فقال ‏{‏فأولئك يدخلون الجنة‏}‏ أي‏:‏ يتصفون بالدخول، أو يدخلهم الله الجنة، ‏{‏ولا يُظلمون‏}‏ أي‏:‏ لا ينقصون من ثواب أعماله ‏{‏نقيرًا‏}‏ أي‏:‏ مقداره، وهو النقرة في ظهر النواة‏.‏ قال البيضاوي‏:‏ وإذا لم ينقص ثواب المطيع فبالأخرى ألا يزيد في عقاب العاصي، لأن المجازي أرحَمُ الراحمين‏.‏ ه‏.‏

‏{‏ومَن أحسن دينًا ممّن أسلم وجهه لله‏}‏ أي‏:‏ لا أحد أحسن دينًا ممن انقاد بكليته إلى مولاه ‏{‏وهو محسن‏}‏ أي‏:‏ مُوَحَّدٌ أحسَنَ فيما بينه وبين الله، وفيما بينه وبين عباد الله، ‏{‏واتبع ملة إبراهيم حنيفًا‏}‏ بأن دخل في الدين المحمدي الذي هو موافق لملة إبراهيم بل هو عينه، فمن ادعى أنه على ملة إبراهيم ولم يدخل فيه فقد كذب‏.‏

ثم ذكر ما يحث على اتباع ملته، فقال‏:‏ ‏{‏واتخذ الله إبراهيم خليلاً‏}‏ أي‏:‏ اصطفاه وخصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله، وإنما أعاد ذكره ولم يضمر؛ تفخيمًا له وتنصيصًا على أنه الممدوح، وسمي خليلاً لأنه قد تخللت محبة الله في جميع أجزائه‏.‏

رُوِي أن إبراهيم عليه السلام كان يضيف الناس، حتى كان يسمى أبا الضيفان، وكان منزله على ظهر الطريق، فأصاب الناسَ سَنَةٌ، جهدوا فيها، فحشد الناسُ إلى باب إبراهيم، يطلبون الطعامَ، وكانت الميرة كل سنة تصله من صديق له بمصر، فبعث غلمانه بالإبل إلى الخليل الذي له بمصر يسأله الميرة، فقال لغلمانه‏:‏ لو كان إبراهيم يريد لنفسه احتملت له ذلك، ولكنه يريد للأضياف، وقد أصابنا ما أصاب الناس، فرجع الرسل إليه، ومرّوا ببطحاء لينة، فملؤوا منها الغرائر حياء من الناس، وأتوا إبراهيم فأخبروه، فاهتم إبراهيم لمكان الناس ببابه، فنام، وكانت سارة نائمة فاستيقظت، وقالت‏:‏ سبحان الله‏!‏ أما جاء الغلمان‏؟‏ فقالوا‏:‏ بلى، فقامت إلى الغرائر فإذا فيها الحُوَّرَى أي‏:‏ الخالص من الدقيق فخبزوا وأطعموا‏؟‏ فاستيقظ إبراهيم، وشم رائحة الخبز، فقال‏:‏ يا سارة‏.‏ من أين هذا‏؟‏ فقالت‏:‏ من عند خليلك المصري، فقال‏:‏ هذا من عند خليلي الله عز وجل، فحينئذ سماه الله خليلاً‏.‏

قال الزجاج‏:‏ ومعنى الخليل‏:‏ الذي ليس في محبته خَلَ، أو لأنه ردَّ خلَته، أي‏:‏ فقره إلى الله مخلصًا‏.‏

ه‏.‏

‏{‏ولله ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ ملكًا وخلقًا وعبيدًا، فالملك له، والعبيد عبيده، يختار ما يشاء كما يشاء من خلة ومحبة وخدمة، ‏{‏وكان الله بكل شيء محيطًا‏}‏ علمًا وقدرة، فيجازِي كُلاًّ على قدر سعيه وقصده‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ على قدر المجاهدة والمكابدة تكون المعاينة والمشاهدة، على قدر البدايات تكون النهايات، من أشرقت بدايته أشرقت نهايته، والجزاء على العمل يكون على قدر الهمم، فمن عمل لجنة الزخارف مُتع بها، ومن عمل لجنة المعارف تنعم بها، ‏{‏وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 49‏]‏، فمن انقاد إلى الله بكلتية إلى مولاه فلا أحد أحسن منه عند الله، ومن تمسك بالملة الحنيفية، وهي الانقطاع إلى الله بالكلية فقد استمسك بالعروة الوثقى، وكان في أعلى ذروة أهل التقى، من تخلق بخلق الحبيب كان أقرب إلى الله من كل قريب‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

‏{‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ‏(‏127‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ و‏{‏ما يتلى‏}‏‏:‏ عطف على ‏{‏الله‏}‏، أي‏:‏ يفتيكم الله، والمتلو عليكم في الكتاب، أي في القرآن‏.‏ ‏{‏وترغبون أن تنكحوهن‏}‏ حذف الجار، وهو في أو عن، ليصدق النهي بالراغب فيها إذا كانت جميلة، والراغب عنها إذا كانت دميمة، و‏{‏المستضعفين‏}‏ عطف على ‏{‏يتامى النساء‏}‏ أي‏:‏ والذي يتلى في المستضعفين من الولدان، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوصيكم الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، أو على الضمير في ‏{‏فيهن‏}‏ أي‏:‏ يفتيكم فيهن وفي المستضعفين، و‏{‏أن تقوموا‏}‏ عطف على ‏{‏المستضعفين‏}‏، أو منصوب بمحذوف، أي‏:‏ ويأمركم أن تقوموا‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ويستفتونك‏}‏ يا محمد ‏{‏في‏}‏ شأن ‏{‏النساء‏}‏ من الميراث وغيره، ‏{‏قل الله يفتيكم فيهن‏}‏، فيأمركم أن تعطوهن حقهن من الميراث، ‏{‏و‏}‏ يفتيكم أيضًا فيهن ‏{‏ما يتلى عليكم في الكتاب‏}‏ في أول السورة إذ قال‏:‏ ‏{‏للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن‏}‏ ثم بيَّنه في تقسيم الميراث في ‏{‏يوصيكم الله في أولادكم‏}‏، وقال في اليتامى‏:‏ ‏{‏وآتوا اليتامى أموالهم‏}‏ ‏{‏وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، فقد أفتاكم في اليتامى ‏{‏اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن‏}‏ من الصداق ‏{‏وترغبون أن تنكحوهن‏}‏ بدون صداق مثلهن، فأمركم أن تنكحوا غيرهن، ولا تنكحوهن إلا أن تقسطوا لهن في الصداق، إذا كانت جميلة، أو لها مال، أو ترغبون عن نكاحهن إذا كانت دميمة، فتعضلوهن لترثوهن، فلا تفعلوا ذلك، بل تزوجوها أو زوجوها، وكانوا في الجاهلية، إذا كانت اليتيمة ذات مال وجمال، رغبوا فيها وتزوجوها، بدون صداقها، وإن كانت دميمة ولا مال لها رغبوا عنها وعضلوها، أو زوجوها غيرهم، فنهى الله تعالى الفريقين معًا‏.‏

‏{‏و‏}‏ يفتيكم أيضًا في ‏{‏المستضعفين من الوِلدَانِ‏}‏ وهم الصغار، أن تعطوهم حقهم من الميراث مع الكبار، وكانوا لا يورثونهم، رُوِي أن عُيينة بن حصين أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أُخبرنا أنك تورث النساء والصبيان، وإنما كنا نورث من يشهد القتال ويحوز الغنيمة‏؟‏ فقال له صلى الله عليه سلم «كذا أُمِرتُ» فنزلت الآية‏.‏

‏{‏و‏}‏ يفتيكم أيضًا ويأمركم ‏{‏أن تقوموا لليتامى بالقسط‏}‏ أي‏:‏ العدل‏.‏ وهو خطاب للأئمة أن ينظروا لهم بالمصلحة ويستوثقوا حقوقهم، ويحتاطوا لهم في أمورهم كلها، ثم وعدهم بالثواب على ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليمًا‏}‏، فيجازيكم الى قدر إحسانكم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ يستفتونك عن نساء العلوم الرسمية، وعن يتامى العلوم القلبية، وهن نتائج الأفكار، وهي العلوم اللدنية، والأسرار الربانية؛ التي هي من علوم الحقيقة، ولا تليق إلا بالمستضعفين عند الخليفة، وفي الخبز‏:‏ «ألا أُخبِركُم بأهل الجَنَّة‏؟‏ هو كل ضَعيفٍ مَتَضعّفَ، لو أقسمَ على اللهِ لأبرَّهُ في قَسمه»‏.‏ أو كما قال صلى الله عليه وسلم‏.‏ قل الله يفتيكم فيهن فيأمركم أن تأخذوا من العلوم الرسمية ما تتقنون به عبادة ربكم، وترغبوا في علم الطريقة، التي هي علم القلوب، ما تحققون به عبوديتكم، ومن نتائج الأفكار ما تُشاهدون به عظمة ربكم، ويأمركم أن تقوموا بالعدل في جميع شؤونكم، فتعطوا الشريعة حقها والطريقة حقها، وتحفظوا أسرار الحقيقة عن غير مستحقها، والله لا يضيع أجر المحسنين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏128‏]‏

‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏128‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏امرأة‏}‏‏:‏ فاعل بفعل يفسره ما بعده، وأصل ‏(‏يَصَّالِحَا‏)‏‏:‏ يتصالحا، فأدغمت، و‏{‏صُلحًا‏}‏ مصدر‏.‏ وقرأ الكوفيون‏:‏ ‏{‏يُصلحا‏}‏؛ من الرباعي، فتنصب ‏{‏صُلحًا‏}‏ على المفعول به، أو المصدر، و‏{‏بينهما‏}‏ ظرف، أو حال منه، وجملة ‏{‏الصلح خير‏}‏‏:‏ معترضة، وكذا‏:‏ ‏{‏وأحضرت الأنفس الشح‏}‏، ولذلك اغتفر عدم تجانسهما‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإن امرأة خافت‏}‏ وتوقعت من زوجها ‏{‏نُشُوزًا‏}‏ أي‏:‏ ترفعًا عن صحبتها، وتجافيًا عنها، كراهية لها، ومنعًا لحقوقها، ‏{‏أو إعراضًا‏}‏ عنها، بأن يترك مجالستها، ومحادثتها، ‏{‏فلا جناح عليهما‏}‏ أن يتصالحا ‏{‏بينهما صلحًا‏}‏ بإن تحط له مهرها، أو من قسمها مع ضرتها، أو تهب له شيئًا تستميله به‏.‏

نزلت في سعد بن الربيع، تزوج على امرأته شابةً، وآثرها عليها‏.‏ وقيل‏:‏ في رجل كبرت امرأته، وله معها أولاد‏.‏ فأراد طلاقها ليتزوج، فقالت له‏:‏ دعني على أولادي، وأقسم لي في كل شهرين أو أكثر، أو لا تقسم‏.‏ فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ «قد سمع الله ما تقول، فإن شاء أجابك»، فنزلت‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، لما كبرت، أراد عليه الصلاة والسلام أن يُفارقها، فقالت‏:‏ أمسكني في نسائك ولا تقسم لي، فقد وهبتُ نوبتي لعائشة، فإني أريد أن أُبعث في نسائك‏.‏

ثم رغَّب في الصلح فقال‏:‏ ‏{‏والصلح خير‏}‏ من المفارقة، أو من سوء العشرة والخصومة، أو خير في نفسه، ولا يكون إلا مع ترك بعض حق النفس من أحد الخصمين، فلذلك ثقل على النفس فشحت به، وإليه أشار بقوله‏:‏ ‏{‏وأحضرت الأنفس الشح‏}‏ أي‏:‏ جعلته حاضرًا لديها لا يفارقها، لأنها مطبوعة عليه، فالمرأة لا تكاد تسمح للزوج من حقها، ولا تسخو بشيء تعطيه لزوجها، والزوج لا يكاد يصبر على إمساكها وإحسان عشرتها إذا كَرِهها، ‏{‏وإن تحسنوا‏}‏ العشرة ‏{‏وتتقوا‏}‏ النشوز والإعراض ونقص حق المرأة مع كراهة الطبع لها، ‏{‏فإن الله كان بما تعملون خبيرًا‏}‏ لا يخفى عليه إحسانكم ولا نشوزكم، فيجازي كُلاًّ بعمله، وفي بعض الأثر‏:‏ من صبرعلى أذى زوجته أعطاه الله ثواب أيوب عليه السلام، وكذلك المرأة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن النفس كالمرأة حين يتزوجها الرجل، فإنها أذا رأت من زوجها الجد في أموره والانقباض عنها، هابته وانقادت لأمره، وإذا رأت منه الليونة والسيولة استخفت بأمره وركبته، وسقطت هيبته من قبلها، فإذا أمرها ونهاها لم تحتفل بأمره، وكذلك النفس إذا رأت من المريد الجد في بدايته والصولة عليها، هابته وانقادت لأمره وكانت له سميعة مطيعة، وإذا رأت منه الرخو والسهولة معها، ركبته وصعب عليه انقيادها وجهادها، فإذا صال عليها وقهرها فأرادت الصلح معه على أن يسامحها في بعض الأمور، وتساعفه فيما يُريد منها، فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما صلحًا، والصلح خير، فإن دوام التشديد قد يفضي إلى الملل، وإن تحسنوا معها بعد معرفتها، وتتقوا الله في سياستها ورياضتها حتى ترد بكم إلى حضرة ربها، فإن الله كان بما تعملون خبيرًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏129‏]‏

‏{‏وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏129‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولن تستطيعوا‏}‏، يا معشر الأزواج، ‏{‏أن تعدلوا بين النساء‏}‏ العدل الكامل التام في الأقوال والأفعال والنفقة والكسوة والمحبة، ‏{‏ولو حرصتم‏}‏ على ذلك لضعف حالكم، وقد خففت عنكم، وأسقطت الحرج عنكم، فلا يجب العدل في البيت فقط، وكان صلى الله عليه وسلم يَقسِمُ بين نِسَائِه فيعِدلُ ويقُولُ‏:‏ «اللهمَّ هذه قسمتي فِيمَا أملِك، فلا تُؤاخِذني فيمَا لا أملِكُ»، يعني‏:‏ ميل القلب، وكان عمر رضي الله عنه يقول‏:‏ ‏(‏اللهم قلبي فلا أملكُه، وأما سوى ذلك فإني أرجو أن أعدل‏)‏، وأما الوطء فلا يجب العدل فيه، إلا أن تتحرك شهوته، فيكف لتتوفر لذته للأخرى‏.‏

‏{‏فلا تميلوا‏}‏ إلى المرغوب فيها لجمالها أو شبابها، ‏{‏كُلَّ الميل‏}‏ بالنفقة والكسوة والإقبال عليها، وتَدَعُوا الأخرى ‏{‏كالمعلقة‏}‏ التي ليست ذات بعل ولا مطلقة، كأنها محبوسة مسجونة، وعن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من كانت له أمَرأتانِ يَميلُ معَ إحدَاهما، جَاء يومَ القِيَامَةِ، وأحَدُ شِقّيه مَائِلٌ»، ‏{‏وإن تصلحوا‏}‏ ما كنتم تفسدون في أمورهن بالعدل بينهن، ‏{‏وتتقوا‏}‏ الجور فيما يستقبل، ‏{‏فإن الله كان غفورًا رحيمًا‏}‏، يغفر لكم ما مضى من ميلكم‏.‏

الإشارة‏:‏ من شأن العبودية‏:‏ الضعف والعجز، فلا يستطيع العبد أن يقوم بالأمور التي كلف بها على العدل والتمام، ولو حرص كل الحرص، وجدَّ كل الجد، فلا يليق به إلا التحقق بوصفه والرجوع إلى ربه، فيأتي بما يستطيع ولا يحرص على ما لا يستطيع، فلا يميل إلى الدعة والكسل كل الميل، ولا يحرص على ما لا طاقة له به كل الحرص، فإن التعقيد ليس من شأن أهل التوحيد، بل من شأنهم مساعفة الأقدار، والسكون تحت أحكام الواحد القهار، فلا تميلوا إلى التعمق والتشديد كل الميل، فتتركوا أنفسكم كالمُعلَّقة، أي‏:‏ المسجونة، وهذا من شأن أهل الحجاب، يُحبسون في المقامات والأحوال تشغلهم حلاوة ذلك عن الله تعالى‏.‏ فإذا فقدوا ذلك الحال أو المقام سلبوا وأفلسوا‏.‏ وأهل الغنى بالله لا يقفون مع حال ولا مقام، هم مع مولاهم، وكل ما يبرز من عنصر القدرة قبلوه، وتلونوا بلونه، وهذا مقام التلوين بعد التمكين‏.‏

وفي إشارة أخرى‏:‏ اعلم أن القدرة والحكمة كالزوجين للقلب، يقيم عند هذه مدة، وعند هذه أخرى، فإذا أقام عند الحكمة كان في مقام العبودية من جهل وغفلة وضعف وذلة، وإذا أقام عند القدرة كان في مقام شهود الربوبية فيكون في علم ويقظة وقوة وعزة‏.‏ ولا قدرة له على العدل بينهما، فلا يميل إلى إحداهما كل الميل بل يسير بينهما، ويعطي كل ذي حق حقه، بأن يعرف فضلهما، ويسير بكل واحد منهما‏.‏ وإن تصلحوا قلوبكم وتتقوا ما يشغلكم عن ربكم، فإن الله كان غفورًا رحيمًا؛ يغفر لكم ميلكم إلى إحدى الجهتين والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏130- 133‏]‏

‏{‏وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ‏(‏130‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ‏(‏131‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏132‏)‏ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ‏(‏133‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ الله وَاسِعاً حَكِيماً وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإن يتفرقا‏}‏ أي‏:‏ يفارق كل واحد منهما صاحبه، ‏{‏يُغن الله‏}‏ كل واحد منهما عن صاحبه، ببدل أو سُلُو يقوم بأمره من رزق أو غيره، من سعة غناه وكمال قدرته، ‏{‏وكان الله واسعًا‏}‏ قدرته ‏{‏حكيمًا‏}‏ أي‏:‏ متقنًا في أحكامه وأفعاله‏.‏ ثم بيَّن معنى سعته فقال‏:‏ ‏{‏ولله ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ أي‏:‏ كل ما استقر فيهما فهو تحت حكمه ومشيئته، قائمًا بحفظه وتدبيره، يعطي كل واحد ما يقوم بأمره ويغنيه عن غيره‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن الروح ما دامت مسجونة تحت قهر البشرية، محجوبةً عن شهود معاني الربوبية، كانت فقيرة جائعة متعطشة، تتعشق إلى الأكوان وتفتقر إليها، وتقف معها، فإذا فارقت البشرية وانطلقت من سجن هيكلها، وخرجت فكرتها من سجن الأكون، أغناها الله بشهود ذاته، وأفضت إلى سعة فضاء الشهود والعيان، وملكت جميع الأكوان، «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك»، وكذلك البشرية يغنيها الله عن تعب الخدمة وتستريح في ظل المعرفة، فلما تفرقا أغنى الله كلاًّ من سعة فضله وجوده، لأنه واسع العطاء والجود، حكيم في تدبير إمداد كل موجود‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ولله ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ إشارة إلى أن من كان بالله، ووصل إلى شهود ذاته، ملَّكه الله ما في السماوات وما في الأرض، فيكون خليفة الله في ملكه ‏{‏وَمَا ذّلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 20‏]‏‏.‏

ولمّا جرى الكلام على شأن النساء، وهن حبائل الشيطان، تشغل فتنتهن عن ذكر الرحمن، حذَّر الحق تعالى من فتنتهن، كما هو عادته تعالى في كتابه عند ذكرهن، وأمر بالتقوى التي هي حصن من كل فتنة، فقال‏:‏

‏{‏وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتقوا الله وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَكَانَ الله غَنِيّاً حَمِيداً وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وكفى بالله وَكِيلاً إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏من قبلكم‏}‏‏:‏ يتعلق بأوتوا أو بوصينا، و‏{‏إياكم‏}‏‏:‏ عطف على الذين، و‏{‏أن اتقوا‏}‏‏:‏ على حذف الجار، أي‏:‏ بأن اتقوا، أو مفسرة؛ لأن التوصية في معنى القول، و‏{‏إن تكفروا‏}‏ على حذف القول، أي‏:‏ وقلنا لهم ولكم‏:‏ ‏{‏وإن تكفروا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولقد وصينا‏}‏ الأمم المتقدمة الذين أنزلنا عليهم ‏{‏الكتاب من قبلكم‏}‏ كأهل التوراة والإنجيل والزبور، وغيرهم من الأمم، ووصيناكم أنتم ‏{‏أن اتقوا الله‏}‏ بإن تمتثلوا أوامره، وتجتنبوا نواهيَه، ظاهرًا وباطنًا، وقلنا لهم ولكم‏:‏ ‏{‏وإن تكفروا‏}‏ فإن الله غني عن كفركم وشكركم؛ فقد استقر له ‏{‏ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ ملكًا وعبيدًا، فله فيهما من الملائكة من هو أطوع منكم، فلا يتضرر بكفركم، كما لا ينتفع بشكركم وتقواكم، وإنما أوصاكم رحمًة بكم، لا لحاجة إليكم، ثم قرر ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏وكان الله غنيًا حميدًا‏}‏ أي‏:‏ غنيًا عن الخلق وعبادتهم، محمودًا في ذاته، حُمِد أو لم يُحمد‏.‏

‏{‏ولله ما في السماوات وما في الإرض‏}‏ كرره ثالثًا؛ للدلالة على كونه غنيًا حميدًا، فإن جميع المخلوقات تدل بحاجتها على غناه، وبما أفاض عليها من الوجود، وأنواع الخصائص والكمالات على كونه حميدًا‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏ ‏{‏وكفى بالله وكيلاً‏}‏ أي‏:‏ حافظًا ومجيرًا لمن تعلق به من أهل السماوات والأرض‏.‏ ‏{‏إن يشأ يذهبكم أيها الناس‏}‏ إن لم تتقوه، ويأت بقوم آخرين، هم أطوع منكم وأتقى، ‏{‏وكان الله على ذلك قديرًا‏}‏ أي‏:‏ بليغ القدرة لا يعجزه مُراد‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ وهذا أي قوله‏:‏ ‏{‏إن يشأ يذهبكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ أيضًا تقرير لغناه وقدرته، وتهديد لمن كفر وخالف أمره، وقيل‏:‏ هو خطاب لمن خالف الرسول صلى الله عليه وسلم من العرب، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 38‏]‏ لما رُوِي‏:‏ أنَّهَا لمَا نزلَت ضَربَ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدَه على ظهر سَلمَان وقال‏)‏ «إنّهم قَومُ هذا»‏.‏

الإشارة‏:‏ التقوى أساس الطريق ومنهاج أهل التحقيق، عليها سلك السائرون، وبها وصل الواصلون، وقد وصَّى بها الحق تعالى المتقدمين والمتأخرين، وبها قرّب المقربين وشرّف المكرمين‏.‏ ولها خَمسُ درجاتٍ‏:‏ أن يتقي العبد الكفر؛ وذلك بمقام الإسلام، وأن يتقي المعاصي والمحرمات؛ وهو‏:‏ مقام التوبة، وأن يتقي الشبهات؛ وهو مقام الورع، وأن يتق المباحات، وهو مقام الزهد، وأن يتقي شهود السَّوى والحس؛ وهو مقام المشاهدة‏.‏

ولها فضائل مستنبطة من القرآن، وهي خمس عشرة‏:‏ الهداية؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُدًى لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏، والنصرة؛ لقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ‏}‏ ‏[‏النّحل‏:‏ 128‏]‏، والولاية؛ لقوله‏:‏ ‏{‏وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏الجَاثيَة‏:‏ 19‏]‏ والمحبة؛ لقوله ‏{‏إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين‏}‏ ‏[‏التّوبَة‏:‏ 4‏]‏، وتنوير القلب؛ لقوله‏:‏ ‏{‏يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 29‏]‏، والمخرج من الغم والرزق من حيث لا يحتسب، لقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 2، 3‏]‏، وتيسير الأمور؛ لقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏ وغفران الذنوب وإعظام الأجر؛ لقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا‏}‏ ‏[‏الطّلاَق‏:‏ 5‏]‏، وتقبل الأعمال؛ لقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏المَائدة‏:‏ 27‏]‏ والفلاح؛ لقوله‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 189‏]‏ والبشرى؛ لقوله‏:‏ ‏{‏لَهُمُ الْبُشْرَى في الْحَيَاةِ الْدُّنْيَا وَفي الأَخِرَةِ‏}‏ ‏[‏يُونس‏:‏ 64‏]‏، ودخول الجنة؛ لقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتِ الْنَّعِيِم‏}‏ ‏[‏القَلَم‏:‏ 34‏]‏ والنجاة من النار؛ لقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ نُنَجّي الَّذِينَ اتَّقَواْ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 72‏]‏‏.‏ ه‏.‏ من ابن جزي‏.‏

ومما ينسب للقطب ابن مشيش رضي الله عنه‏:‏

عليكَ بتقوى الله في السرِّ والجهرِ *** ذا شئتَ توفيقَا إلى سُبُلِ الخيرِ

لأن التُّقى أصلٌ إلى البِرَّ كلَّه *** فخُذه تَفُز بكلِّ نوعٍ من البرّ

وخيرُ جميعِ الزاد ما قال ربُّنا فَكُن *** يا أخي للهِ مُمتَثِل الأمر